جارٍ تحميل التاريخ...

التفسير – أثر الإيمان في إصلاح ذات البين – ذ. الحسن إد سعيد

التفسير – أثر الإيمان في إصلاح ذات البين – ذ. الحسن إد سعيد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها السادة الأئمة الفضلاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مرحبا بكم مرة أخرى في رحاب آي الذكر الحكيم؛ التي نتناول من خلالها ما تهدف إليه خطة تسديد التبليغ؛ من تقوية الإيمان، وتصحيح العمل، وتزكية النفوس، ورفع العنت والكلفة عن النفس والغير، وهذه مقاصد كبرى، أحوج الناس إليها الأئمة باعتبارهم العنصر الأهم في التبليغ لقربهم من الناس، ومعاشرتهم إياهم في كل يوم خمس مرات على الأقل.

وآية اليوم هامة جدا في هذا السياق لكونها تتحدث عن إصلاح ذات البين، وأقدر الناس على هذه المهمة إمام المسجد لثقة الناس به، ولجوئهم إليه، والسماع لتوجيهاته وقبول نصحه.

وهي قول الله تعالى: ﴿لَّا خَيْرَ فِے كَثِيرٖ مِّن نَّجْو۪يٰهُمُۥٓ إِلَّا مَنَ اَمَرَ بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلَٰحِۢ بَيْنَ اَ۬لنَّاسِۖ وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَٰلِكَ اَ۪بْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اِ۬للَّهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ﴾ [النساء: 113].

وفيها من الهدايات القرآنية ما يأتي:

الهداية الأولى: علاقة الإيمان بإصلاح ذات البين.

انطلاقا من عنوان هذا الدرس: أثر الإيمان في إصلاح ذات البين، نستشف أهمية الإيمان في تأليف القلوب، وترغيبها فيما عند الله؛ فيتنازل المتخاصمان كل منهما يعتذر لصاحبه لكسب الأجر والثواب، وكذلك القائم بالإصلاح يبتغي بذلك وجه الله؛ فييسر الله تعالى أمره، ويؤلف بين القلوب بسبب تدخله، فينجح في نزع فتيل النزاع بين الناس، وتسعد الأسرة والمجتمع والأمة بمثل هذه التدخلات الإيمانية، الخالية من العصبية، والأنانية، والأثرة، وازدراء الغير.

ولذا ربط الله تعالى في هذه الآية بين إصلاح ذات البين وبين ابتغاء مرضاة الله، فقال جل شأنه: ﴿وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَٰلِكَ اَ۪بْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اِ۬للَّهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ﴾، فالمتعامل مع الله تعالى يبارك عمله وينجح سعيه، ويجعل مفاتيح الخير على يديه.

ويزيد هذا المعنى وضوحا سياق الآية الكريمة؛ إذ كان ما قبله يتحدث عن إصلاح ذات البين، والعدل في الحكم، وتحريم اتهام الناس بلا ذنب ارتكبوه، وامتنان الله تعالى على نبيه بما خصه به من فضله الذي نجاه من أن يضله الناس، فيحكمَ بغير الحق في القصة المذكورة في كتب التفاسير، حيث سرق بنو زريق، ونسبوا السرقة لغيرهم، وجاءوا إلى النبي ﷺ قصد تبرئة السارق؛ ففضحهم الله، وأنزل هذه الآيات في شأنهم([1]).

الهداية الثانية: نفي الخيرية عن النجوى إلا في حال إرادة الخير.

النجوى هي الكلام الخفي بين اثنين، ولا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث؛ كما قال النبي ﷺ، لما يسبب ذلك من سوء الظن من الثالث، لأنه قد يظن أنهم يكيدون له كيدا، فيستريب من أمرهم. ولذا نهى الشرع عن النجوى فقال الحق سبحانه هنا: ﴿لَّا خَيْرَ فِے كَثِيرٖ مِّن نَّجْو۪يٰهُمُۥٓ﴾. ذلك لأن أهل السارق تناجوا، وتمالؤوا على نفي السرقة عن أخيهم، ونسبتها إلى غيره.

وفي هذا النوع من النجوى قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ اِ۬لرَّسُولِۖ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْو۪ىٰۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ اَ۬لذِےٓ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَۖ إِنَّمَا اَ۬لنَّجْو۪ىٰ مِنَ اَ۬لشَّيْطَٰنِ لِيُحْزِنَ اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَئْاً اِلَّا بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ وَعَلَى اَ۬للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اِ۬لْمُومِنُونَۖ﴾ [المجادلة: 10].

ثم استثنى القرآن الكريم هنا استثناء منقطعا النجوى في أمور البر المختلفة، وذكر منها وهي:

الهداية الثالثة: الأمر بالصدقة.

مما تهدي إليه الآية الكريمة الأمر بالصدقة، والصدقة من الصَّدق، بفتح الصاد، وهو القوة والشدة، سميت بذلك لقوة صاحبها على نفسه، وإلزامها الصدقة، ومنه الصدق الذي هو خلاف الكذب؛ لقوته وثبوته وصحته، والصداق اللازم للمرأة عنوانا للمحبة، والالتزام بمقتضيات الزواج.

فالصدقة إذاً عنوان على صدق صاحبها في إيمانه، كما قال النبي ﷺ: «والصَّدقةُ بُرهانٌ»([2])، فهي برهان عن صدقه، وبرهان له يوم القيامة يحاج ويدافع عنه.

والصدقة اسم شامل لكل ما ينفقه المسلم، سواء تعلق الأمر بالصدقة الواجبة كالزكاة والنفقة على العيال، أو تعلق بما ينفقه في أبواب التطوعات، والتبرعات على الفقراء، والمساكين، وفي وجوه البر، والإحسان المختلفة، وإن تعددت الأسماء؛ كالوقف، والحبس، والهبة، والنحلة، والعطية، والعُمْرى، والإرفاق، والإفقار، وهو إعارة الدواب للركوب عليها، والمنحة وغيرها؛ فهي كلها تندرج تحت اسم الصدقة.

والصدقة من أوائل ما يأمر به النبي ﷺ في بداية بعثته، كما قال أبو سفيان لما قال له هرقل: “ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة»([3]).

فكانت الصدقة من الأسس الأولى التي قامت عليها دعوة الإسلام، إلى جانب الصلاة، والزكاة، والعفاف، والصلة، وهي كبريات الشعائر التعبدية، ومكارم الأخلاق.

إذاً فالنجوى في الحث على الصدقة، والبر والإحسان من النوع المطلوب، والمرغب فيه.

وكما روى النسائي عن أبي مسعود، قال: كان رسول الله ﷺ: «يأمرنا بالصدقة، فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمِل على ظهره، فيجيء بالمد، فيعطيه رسول الله ﷺ. إني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم»([4]).

الهداية الرابعة: الأمر بالمعروف.

مما تهدي إليه الآية الكريمة، وتحث عليه القاعدة الكبرى التي يرتكز عليها المجتمع، وتستوي عليها أركانه، ألا وهي الأمر بالمعروف، إلى جانب القاعدة الثانية: النهي عن المنكر.

ذلك لأن تدافع المصالح بين أفراد المجتمع وتنافس الناس في تحقيق مصالحهم قد يؤدي إلى التنازع أحيانا، وقد تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، فأمر الشارع الحكيم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لإطفاء فتيل التنازع بين الناس، وأثنى على المؤمنين بالتزامهم بهاتين القاعدتين فقال جل شأنه: ﴿وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَٰتُ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُونَ اَ۬لزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اَ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۖ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ﴾ [التوبة: 72].

فهذه الآية ثناء ومدح لأهل الإيمان بكونهم ملتزمين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله ﷺ، فاستحقوا أن يرحمهم الله، العزيزُ في ملكه الحكيمُ في حكمه.

والمعروف هو كل ما يحبه الله ويرضاه من طاعة، وإحسان، وبر، سواء كان منصوصا عليه في الكتاب والسنة، أو متعارفا عليه في حياة الناس من خلال تعاملهم، وتصرفاتهم القائمة على العدل، وحب الخير للغير. وكثيرا ما يستعمل القرآن الكريم المعروف، بهذا المعنى، في أحوال الأسرة من حيث المعاشرةُ بالمعروف، والنفقة بالمعروف، والكسوة بالمعروف، وسائر العلاقات بين أفراد الأسرة تكون بالمعروف، لا بحد محدود يسري على الجميع، وإنما كلٌّ وما يناسبه، كما قال القرآن الكريم: ﴿عَلَى اَ۬لْمُوسِعِ قَدْرُهُۥ وَعَلَى اَ۬لْمُقْتِرِ قَدْرُهُۥ مَتَٰعاَۢ بِالْمَعْرُوفِۖ حَقّاً عَلَى اَ۬لْمُحْسِنِينَۖ﴾ [البقرة: 235].

وعليه، فحينما يتدخل المتدخل لإصلاح ذات البين، فإنه يجب مراعاة المعروف نصا كان أو عرفا؛ لتحقيق المصلحة الشرعية في تأليف القلوب على ملازمة البر والإحسان فيما بينهم.

أما المنكر الذي هو قسيم المعروف، فهو كل ما يبغض الله تعالى من قول أو فعل أو سلوك، مما يشين ولا يزين، ويسيء ولا يحسن، ويزيد أحوال الناس تفاقما واضطرابا، وفي معيشتهم ضنكا وحرجا، فكل ذلك من المنكر الواجب تجنبه.

الهداية الخامسة: إصلاح ذات البين.

هذه الهداية هي مساق الكلام، وهي أثر من آثار الإيمان والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الغاية من كل ما سبق؛ إذ إصلاح ذات البين من أفضل أعمال البر؛ لما روى الترمذي في سننه عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة»؟ قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة». ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: «هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»([5]).

ففي هذا الحديث تفخيم أمر إصلاح ذات البين، وفيه كذلك تهويل وخطورة فساد ذات البين وما يسببه من كوارث في الدين، فسلامة الدين من صلاح ذات البين وفساده من فسادها. والله تعالى المستعان.

الهداية السادسة: الإخلاص في كل ما سبق.

مما تهدي إليه الآية الكريمة في مسك ختامها أن هذه الأعمال الجليلة من الصدقة، والأمر بالمعروف، وإصلاح ذات البين؛ تتطلب بإلحاح الإخلاصَ المعبرَ عنه هنا بابتغاء مرضات الله تعالى، فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَّفْعَلْ ذَٰلِكَ اَ۪بْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اِ۬للَّهِ فَسَوْفَ نُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماٗۖ﴾. وكفى بذلك جزاء أن يكون الله تعالى هو الكفيلَ بإرضاء عبده وإنجاز وعده له، وهذا ينسي العبد ما قد يتلقاه من ردود أفعال وهو يصلح ذات البين، كما يرغبه في بذل كل الجهد من الوصول إلى النتائج.

وهذه المنقبة منقبة إصلاح ذات البين لها جانب بشري يكسبه العبد بجهده، وجانب رباني يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده.

والقائمون بثغره والواقفون على بابه الأئمة والخطباء والوعاظ؛ ومن يسر الله تعالى له أمر التبليغ والدعوة إليه. واللهَ تعالى نسأل أن يُجرِيَ الخير على أيدينا جميعا وأن ينفعنا وينفع بنا ويهدينا ويهدي بنا آمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركات

([1]) – ينظر تفسير ابن جزي 1/303.

([2]) – صحيح مسلم كتاب الطهارة باب فضل الوضوء 1/203.

([3]) – صحيح البخاري باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، 1/8.

([4]) – سنن النسائي باب جهد المقل، 5/59.

([5]) – سنن الترمذي باب بلا عنوان، 4/663.


At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)